تحليل ونقد لقصيدة الشاعرة رفيف الفارس سقاية الدمع
بقلم علي محمد العبيدي
**********************************************************
الى الرحّال الذي لا يمل السفر في أحلامي
سقاية الدمع
ــــــــــــــــــــــ
وتلك المنارةُ البعيدة
ترسم خيالاتِ الضوء
ترقص تحتَ المطر
تُلاعب أغنياتِ الفجر
أخبِرني أنها لا تعرف الرحيل
قل لي إنّ احلامنا لن تغرقَ في قاع البحر
وإنّ الوحوشَ لن تعرف طريقَنا
أخبرني عن حكاياتِ شهرزادَ والاميرةِ الحالمة
عن صندوقِها السحري
وفارسِها الجميل
أخبرني أنّ الازهارَ لن تموتَ من الشوق
وأنّنا لم نزلْ نغنّي احلامَ العمر
أخبِرني أنّ الاطفالَ ما تزالُ تلعبُ بالدمى
وأنّهم لا يعرفونَ معنى العصْفِ ...
التشظي...
هوَسِ الريح...
وطعمِ الجراح...
و أنّ عينيك يخضبُهما البريقُ
وصوتَك يهمِسُ بالحنين
أخبِرني أنّك فتى السابعة عشرة
تنتظرُ فتاةَ الأشرطة البيضاء ... بحقيبتِها المدرسية
وفي عينيك ألفُ سؤالٍ...
وأُغنية ...
أخبِرني أنّنا لن نكبُرَ
ولن نضيعَ
ولن نبتعدَ
ولن تبتلعَنا الخرائط
أخبِرني أنّ المراسي ما تزالُ تَجدُ القاع
وسفينتُك تبحرُ نحوي
رغمَ المدى والأكفان
أخبِرني أنّي لا أحتاجُ الدموع
ففي قلبك
ما زال ينبِضُ صوتي
************************************************
قبل الدخول في النص الشعري لا بد من مقدمة سريعة وإشارة مهمة الى أن الشاعرة رفيف الفارس تتعايش مع خيالها تعايشا إيجابيا الى أبعد المديات ، أو أننا نستطيع القول مجازاً أنها غارقة في بحر خيالها الواسع ، وليس كذلك فحسب إنما لهذا الخيال شكلا ولونا مختلفا تميزت به هذه الشاعرة فهي تعيش مع خيالها حالة خاصة سنتكلم عنها في قراءة ديوانها من يطرق باب الضوء بشئ من التفصيل .
ويجدر بنا أن نشير هنا وفي تحليلنا لهذا النص أن الشاعرة لها إيقاعها الخاص في نظمها الشعري سواء في الخيال أو رسم الصورة الشعرية ، وهذا الإيقاع يسير بعدة اتجاهات حسب الحالات التي تعيشها الشاعرة وتتفاعل معها لتكون في النتيجة فيضا شعريا يأخذ بالمتلقي الى عالمها الكبير وفضاء تعبيرها الرحب .
قبل شروعها في المطلع الاستهلالي وجهت الشاعرة رسالة مقتضبة الى (الرحّال الذي لا يمل السفر في أحلامي) .
نستطيع ان نفهم من هذه الرسالة قصد الشاعرة أنه يتوجه نحو البحث عن الذات أو هو نداء الروح الصامت في عالمها الذي تسافر فيه وفضاء الفِكَر الذي تسبح فية ، وهي في حالة غريبة بين الحركة والسكون لأن إجتذاب السجايا البرئية نحو نور الرجاء هي التي تقود الشاعر ليتلمس طريقه في هذا العالم الذي لا يمكن لأحد أن يقتحم حدودة إلا عبر جسور مضيئة تريد أن تتحدى الوهم نحو عالم الحقيقة من خلال التصور النقي لخيال البراءة من أجل صنع الأمل وتجديد نشاط الروح وتنقيتها بخفقة من نسائم النقاء المطلق وتحررها من القيود الخفية التي تعترضها عند عودتها من عالم التسامي الى عالم الحقيقة التي أستوعبتها الشاعرة بقوة إدراكها وفطنتها ، ومن خلال تتبع نصوصها الأدبية وبالرغم من الأسلوب العصري في العرض وطريقة الكتابة نتبين أنها شاعرة محافظة على روح الأدب العربي شعرا ونثرا والذي يعتمد الحقيقة أساسا للحياة وتفاعل الانسان العاطفي مع الطبيعة ومع محيطه الذي يعيش فيه تفاعلا إيجابيا ومثمراً .
(سقاية الدمع)
السقاية في اللغة إناء يسقى به ، وسقيا له : دعاء له ، وتقديره سقاه الله سقياً . والسَّقِي السحابة العظيمة القطر الشديدة الوقع ، والتي تسقي الارض والزرع .
لكن الشاعرة أضافتها الى الدمع ، وهنا يجب علينا أن نتبع المعنى الذي تقصده الشاعرة في تصوير الموقف الذي نحن بصدده . الذي توافق لغة واختلف قصداً .
وسقي العين من دمعها بينه وبين سقي السحاب فارق كبير فسقي الدمع فيه من الشجن والشوق ما فيه ، وذاك فيه من البشر والبسمة ما فيه .
ولكن الشاعرة استدركت الأمر بطريقة ذكية ولطيفة ونأت بالمطلع بعيدا عن الشكوى التي تقود الى الضعف والاحباط فزفت البشرى ، وأعطت الامل ودلت على الطريق وذلك برسمها خيالات بسيطة وسهلة من خيوط الضوء ، (وقالت خيالات لانها معدودة ومعروفة الحدود) . ثم بعثت في النفس شعورا جميلا إمتزج معه الفرح والسعادة لان هذه الخيالات كانت ترقص تحت المطر ، والمطر دائما دليل على الخير والسعادة وارتياح النفوس ، ثم أردفت قائلة مع كل هذا انها تلاعب وتتناغم مع إيقاع أغاني الفجر الذي تُرسل معه خيوط الضوء ونور البيان . ثم تنادي أخبرني أنها لا تعرف الرحيل ، وهذا تحقيق وتأكيد لما أسلفت بأنها ستبقى وتستمر في زهوها الغرير وتستمد أنفاسها من أسرار ذلك الضوء ولن ترحل .
إنها تقول ذلك عندما تأتي خفقة الكرى التي تسبق سنة النعاس ، ولكنها في الحقيقة هي واثقة من أن أحلامنا سابحة على سطح البحر وتحلق في سماءنا الصافية وهي على وشك التحقق ، وهي متحققة لا محالة ، ثم تكرر ندائها متسائلة هل الطريق آمن ؟ ولن تغدر بنا وحوش الشر والحسد والضغائن ، وحكايات شهرزاد الجميلة والأميرة الحالمة بالمخدع العاجي وصندوقها السحري الذي يحمل لها كل ما تتمناه .
ثم تنتقل إنتقالة مفاجئة وتسأل عن الازهار خشية ان يصيبها عطش الفراق فيطول عليها الامد فتموت شوقا . وهل أننا ما زلنا نغني أحلام العمر .
كل هذه الساؤلات وما اكتنفها من حالة عدم الاستقرار والتأرجح في حالة قلقة بين اليقظة والنوم ، هي بالاساس هي في طريقها الى التحقق ولكن ثمة أمور حالت ثم إنها ستزول برياح الأمل التي تحمل معها البشرى . ومن الطبيعي أن تكون لإرادتها الصلبة المستندة الى النور الذي رسمت من خلاله طريق الفجر الباسم والرؤيا البعيدة للمستقبل الغالبة لكل ما هو سلبي الصادقة في قولها الواثقة من خطواتها من تحقيق كل الاحلام .
وفي خظم كل هذه الاحداث والمتغيرات لكنها لم تنسى الأطفال وروحها معلقة بهم وكان لسان حالها يقول يا ويح قلبي هل هم آمنون ؟ وهل عندهم الدمى التي يلعبون ويلهون بها ؟ انها تخشى عليهم من عاديات الزمن ، لأنهم يمثلون البراءة والصفاء والطفولة هي أسمى معاني الانسانية النقية التي لا تشوبها شائبة . تخاف عليهم لانهم لا يعون خطورة العواصف ولا يقدرون خطورة ما يحيط بهم من هول ولا يفهمون لغة الدم وليس لها أي معنى عندهم لأنهم لايعرفون إلا الحب والضحكة الغريرة . لذلك عبرت الشاعرة بكلمات (العصف ، التشظي ، هوس الريح ، وطعم الجراح ).
وأخبرني عن عينيك هل أنهما ما زالتا تكتحلان ببريق السؤدد ونور الخير وصوتك يهمس بالحنين في عالم الأمان ، إذا كان هذا حقيقي فأخبرني عن فتاة أحلامك الوردية وأنت تنتظرها في طريق عودتها وأشرطة جدائلها البيضاء تتطاير مع الرياح وهي تحمل حقيبتها المدرسية وتسير بجذل وعنفوان الصبا المفعم بالحيوية والأمل الواعد وأنت واقف مسمر في مكانك وفي عينيك ألف سؤال وأغان حب وعبير شوق ، حار كيف ينطقها لسانك وتعثلم حين أراد أن يتلفظها .
وتأتي الإجابة من عالمها الخيالي الصافي تحقيقا لأسئلتها نعم سنبقى في عنفوان الشباب ولن تضيع آمالنا ولن نبتعد عن حدائقنا الغناء ولا حقولنا المزهرة وسنعيش ربيع دائم في عالم ملؤه المحبة والتعاون والحنان ولن تلفنا ريح الغربة الباردة القاسية نعم ستبحر سفينتنا وتطوي المسافات بالرغم من كل المآسي والأحزان نحو ساحل النجاة وبر الأمان تحمل على ظهرها كل ما هو خير ونعمة وتكفكف الدموع وترسم البسمة على الوجوه وتعد بصباح يوم مشرق وبهيج . فنحن ما زال يحدونا الأمل لنرسم طريق المستقبل ونستقي من نهر الحياة العذب الذي يعيد للقلب نبضه وإحساسة بجمال الطبيعة وإحساسه بالأمان وبدفء الكائنات .
لقد أجادت الشاعرة في نظمها هذا النص حيث جعلت من وحدة النص عامل جذب وقبول لكل من يطلع عليه ، وجعلت من تسلسل الجمل بما تحمله من صور وأفكار تسير وفق ما تتطلبه المواقف والتحولات من مقطع لآخر ، مستخدمة طريقة التورية بطريقة سهلة وجذابة ، وتهدف من خلالها إستثارة ذهن المتلقي بالدرجة الأولى ، ثم جعلت منها رابط بين أجزاء الكلام لكي تصل الأفكار كاملة ويستطيع من خلالها السامع أن يكون صورة متكاملة لجوانب النص .
كان لحضور صور الطبيعة في النص مثل (الضوء ، المطر ، الفجر ، البحر ، الوحوش ، الأزهار ، الريح ، البريق ، وغيرها) جعل من النص جسداً نابضا بالحياة ،علماً أنه أعطى القصيدة مسحة جمال كانت الشاعرة قد رسمتها بطريقة ذكية .
الأساليب البلاغية المتعددة التي استخدمتها الشاعرة من ظهور وخفاء في أماكن متعددة أعطت للنص رونقا وجمالاً وأضفت عليه طابع التأمل والتساؤل ، فكانت عامل جذب وإسلوب تشويق لمتابعة النص واستكشاف مكنوناته .
إمتزاج الحزن والحنين والخوف خصوصا في قولها ( أخبرني عن الأطفال ...) كان له أثره البالغ في التأثير على النفس وهذه الطريقة تعمل على تنقية النفس البشرية وترسيخ روح التعاطف والمحبة والانسانية بين البشر .
الإشارة الى الدلالات الزمانية والمكانية جعلتها الشاعرة بين الغائب والموجود أي انها لم تعطي لها أوصافها الثابتة ولم تقيدها بحدود معينة وإنما جعلتها إشارات شبه رمزية وتركتها للمتلقي ليعيش معها في خياله ليكتسب مساحة واسعة في التأمل والمتعة .
المفردات التي استخدمتها الشاعرة في النص والجمل المقتضبة بتكثيف عالي للمعاني التي كانت تقصدها من بداية النص وحتى الخاتمة يضاف اليها الأحاسيس والمشاعر التي ألهبت فكر المتلقي جعلت كل من يتأمل النص بعمق وينعم فيه النظر تتملكه حالة تعايش وتفاعل مع الشاعرة لا يستطيع الإنفكاك عنها ما دام إنه يعيش حالة التأمل هذه بعواطفه ومشاعره ، لأن حالة التوازن وحقيقة الطبيعة وارتباطها بالحياة رسمتها الشاعرة من العنوان وحتى الخاتمة جاءت مستقيمة بلا زلل أو أخطاء .
No comments:
Post a Comment