أثر العادات والتقاليد الاجتماعية في الشعر العربي عبر العصور
علي محمد العبيدي
كاتب وباحث وناقد
المحور الاول:
التنوع الاجتماعي والديني واثره في الشعر قبل الاسلام .
المحور الثاني :
الرسالة الاسلامية ودورها في تطور اتجاهات الشعر العربي .
المحور الثالث :
العصر العباسي وأثر المدنية والانفتاح الثقافي في الشعر العربي
السادة الكرام إدارة وأعضاء منصة أريد للغة العربية وجميع القائمين عليها مع حفظ الألقاب والمقامات
السادة الضيوف الكرام كل بلقبه ومركزه
أحييكم أجمل تحية وأرحب بدعوتكم أجمل ترحيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي هدانا الى الحق بأذنة ، والعمل بكتابه الكريم بفضله ، وتوحيدهِ ربوبيةٍ وألوهيةٍ وأسماءٍ وصفاتٍ كرماً ومنة ، واتباع سنن وآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم برحمته ، فقد تركنا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك ، ودلنا سبحانه وتعالى على سبل العلم وفتح لنا مغاليق أبوابه نعمة منه وتفضلا
أما بعد
اليوم نتحدث عن موضوع مهم جداً يمس ثقافة وحياة وتقاليد وعادات وأعراف وأخلاق المجتمع العربي عبر عصور وفترات مختلفة من تاريخ هذه الأمة الحافل بكل ما هو أصيل ومتميز وكل ما مر عليها عبر العصور من فترات رخاءٍ وأيام محن وشدائد ، فحمل لنا الشعر العربي مبادئ وصفات وصور المجتمع العربي عبر التاريخ نقلا ورواية وتدويناً . وقد عدلت عن كثير من العادات والتقاليد التي تنزل بالشعر الى مستويات أدنى مما عرف عنه واخترت ما اشتهر منها وأثر في تطور الشعر من خلال المتغيرات التي حدثت على مر العصور.
الأدب هي كلمة تطلق على ما تعارف عليه أهل العلم من ذلك الجمال المعنوي الذي يستودعه الشاعر أو الكاتب ما يؤثر عنهما من المنظوم أو المنثور ، وهو كل كلام مستعذب يلامس الاحاسيس وترق له القلوب وتنشرح له الصدور، ويدخل في معناه حلاوة الطبع ورقة التعبير وسلامة الذوق ولطافة المنطق
قال الشاعر :
أُحبُّ الفتى ينفي الفواحش سمعه *** كأن به عن كلِّ فاحشةٍ وقراً
وقوله :
إذا شئتَ أن تُدعى كريماً مُكرّماً *** أديباً ظريفاً عاقلا ماجداً حرّاً
إذا ما أتتْ منْ صاحبٍ لكَ زلّهٌ *** فكنْ أنتَ مُحتالاً لزلتهِ عذراً
المحور الاول:
التنوع الاجتماعي والديني واثره في الشعر قبل الاسلام .
وتسمى هذه الفترة بالعصر الجاهلي
الجاهلية : ليس الجهل بالعلم والحلم ولا التخلف الثقافي والأخلاقي ، أنما يقصد بها الضلالة والشرك المنافي لتوحيد الله سبحانه وتعالى.
ويمتاز الشعر في هذا العصر بالجزالة وبديع الألفاظ وقوة اللغة والبلاغة ودقة التعبير وجمال الوصف والتصوير
قال السموءَل :
وننكرُ إن شئنا على الناسِ قولهم *** ولا ينكرون القولَ حينَ نقولُ
ومعناه التناهي في العزة والدلالة على هيبة الجانب ، واستطالة الجاه ، وكانت هذه الصفات من العوامل المهمة في حياة الأنسان العربي في حفظ كرامته ومكانته في قومه وعند غيرهم لذلك ظهر تأثيرها واضحا في الشعر العربي
قال النابغة الذبياني مستخدماً اسلوب التشبيه بأجمل صيغهِ:
فَإنَّكَ كالليلِ الذي هو مُدركي *** وإن خلتُ أن المُنتأى عنكَ واسعُ
فبهذه القوة والجزالة والوصف أعطانا الشعر الجاهلي تصورا دقيقاً وكاملا عن حياة تلك الأيام التي خلت .
شهد هذا العصر تنوعاً دينيا وثقافيا في مختلف أرجاء الجزيرة العربية
ومن أهم أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام هي الحنيفية واليهودية والمسيحية وعبادة الأصنام .
الحنيفية
ظهرت الحركة الحنيفية عند العرب قبل الإسلام، خصوصاً بين الذين رفضوا عبادة الأوثان، وسُمي أتباعها بالأحناف أو الحنفاء، نسبة لإبراهيم عليه السلام
وكان لهذا الاتجاه الديني الأثر البالغ في أفكار وتصورات الإنسان عن الحياة والكون ومعرفة الخالق الواحد وظهر هذا الأثر في الشعر العربي .
وقد ذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي في الجزء الثاني من كتاب البداية والنهاية وكتاب السيرة النبوية :
قال قس بن ساعدة الايادي بعد خطبة بليغة يذكر فيها الناس بمعنى الحياة والموت وعجائب المخلوقات :
فى الذاهبينَ الأولينَ مِن القرونِ لنا بَصائر
ورأيتُ قومى نَحوها تَمضى الأكابر والأصاغِرُ
لا يَرجعُ الماضى إلىَّ ولا مِن الباقين غابر
أيقنتُ أنى لا محالةَ حيثُ صارَ القومُ صائر
وهو القائل أيضا:
ذكر القلب من جواه أدكار **** وليال خلالهن نهار
وسجال هواطل من غمام **** ثرن ماء وفي جواهن نار
ضوءها يطمس العيون وأرعاد **** شداد في الخافقين تطار
وقصور مشيدة حوت الخير **** وأخرى خلت بهن قفار
وجبال شوامخ راسيات **** وبحار مياههن غزار
ونجوم تلوح في ظلم الليل **** نراها في كل يوم تدار
ثم شمس يحثها قمر الليل **** وكل متابع موار
وصغير وأشمط وكبير **** كلهم في الصعيد يوما مزار
وكبير مما يقصر عنه **** حدسه الخاطر الذي لا يحار
فالذي قد ذكرت دل على الله **** نفوسا لها هدى واعتبار
ومن أشعار أمية بن أبي الصلت وتعدد الاغراض وأثر المعتقدات والعادات والتقاليد والأعراف في ذلك الوقت قال:
مَجِّدوا اللَهَ فَهوَ لِلمَجدِ أَهلُ *** رَبُّنا في السَماءِ أَمسى كَبيرا
ذَلِكَ المُنشِىءُ الحِجارَةَ *** وَالموتى وَأَحيِاهُمُ وَكانَ قَديرا
الأَعلى الَذي سَبَقَ الناسَ *** وَسَوَّى فَوقَ السَماءِ سَريرا
رَجعاً لا يَنالُهُ بَصَرُ *** الناسِ تَرى دونَهُ المَلائِكُ سورا
وروى صاحب الأغاني أنَّ أمية كان منقطعًا في الجاهلية إلى عبد الله بن جدعان الغالبي، وكان رجلًا صالحًا وسيدًا جوادًا من قريش يصل الرحم ويطعم المسكين، فكان أمية يمتدحه وينال هباته، ومن شعر أمية بن أبي الصلت في صاحبه عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني **** حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع **** لك الحسب المهذب والسناء
خليل لا يغيره صباح **** عن الخلق الجميل ولا مساء
ومن بديع شعره الدال على إيمانه قوله:
إله العالمين وكل أرض **** ورب الراسيات من الجبال
وشق الأرض فانبجست عيونًا **** وأنهارًا من العذب الزلال
ومنها في وصف الجحيم:
وسيق المجرمون وهم عراة **** إلى ذات المقامع والنكال
فنادوا ويلنا ويلًا طويلًا **** وعجوا في سلاسلها الطوال
فليسوا ميتين فيستريحوا **** وكلهم بِحرِّ النار صال
وقال في وصف الجنة:
وحل المتقون بدار صدق **** وعيش ناعم تحت الظلال
لهم ما يشتهون وما تمنوا **** من الأفراح فيها والكمال
ومن شعره في التوحيد والصمدية:
الحمد لله الذي لم يتخذ *** ولداً وقدر خلقه تقديرا
وعنا له وجهي وخلقي كله *** في الخاشعين لوجهه مشكورا
اليهودية
انتشرت اليهودية بين العرب الأقدمين في ملوك حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وغسان، كما تهوَّد قوم من الأوس والخزرج، وامتدت الديانه اليهودية إلى يثرب، كما تهوَّد كثيرٌ من عرب الحجاز.
وذُكرت اليهودية في أشعار العرب، ووردت بعض الألفاظ الدالة على أماكن عباداتهم، مثل: المحراب، كما ورد في شعر قيس بن الخطيم "نَمَتْها اليَهُودُ إلى قُبّةٍ.. دوينَ السماء بمحرابها"، كما وردت أسماء كتب اليهودية المقدسة في القرآن مثل الزبور والتوراة والأسفار.
ومن أشهر شعراء العرب المتهودين: السموأل بن عاديا، من قبيلة تيماء، وكعب بن سعد وشريح بن عمران من بني قريظة، ومن ضمن أشعار السموأل التي تؤكد إيمانه بخلق الإنسان من عدم وبعثه بعد الموت.
مَيْتَ دَهْرٍ قد كنتُ ثم حَيِيتُ *** وحياتي رهنٌ بأنْ سأموتُ
وأتاني اليقينُ أني إذا متُّ *** مِتُّ أوْ رَمَّ أعْظُمِي مَبْعُوثُ
المسيحية
كان أول احتكاك للعرب بالمسيحية مع ظهور المسيح مباشرة، في تلك المدن التي عاش فيها وتنقل بينها، مثل الناصرة وبيت لحم والقدس وأريحا وصور وصيدا، فكل هذه المدن كانت تعرف بعض السكان العرب.
ومن بينها العرب القاطنون لشمالي شبه الجزيرة العربية،
كما انتشرت المسيحية في اليمن بعد احتلال الأحباش لها.
وفي قلب بلاد العرب دخلت المسيحية عن طريق المُبشرين والتجار، ومن الأماكن التي تواجدت فيها: دومة الجندل، من قبيلة طيء وكان عدي بن حاتم الطائي نصرانياً قبل أن يدخل الإسلام،
وحفل الشعر الجاهلي ببعض مفاهيم المسيحية الدينية مثل: القضاء والقدر، والثواب والعقاب، والخير والشر، والزهد والعبادة، حيث يقول عدي بن زيد العبادي:
لَيسَ شَيءٌ عَلى المَنونِ بِباقِ *** غَيرُ وَجهِ المُسَبَّحِ الخَلّاقِ.
ويقول زيد بن عمرو بن نفيل:
فلن تكون النفس منك واقية *** يوم الحساب إذا ما يجمع البشر.
الأديان الوضعية
وإلى جانب ديانات الوحي عرف العرب قبل الإسلام ديانات من وضع البشر، مثل:
-المجوسية
-المزدكية
-المانوية
-عبادة الأوثان والأصنام
انتشرت بين العرب في الجاهلية انتشاراً واسعاً، حيث اتخذوا من الأحجار ومنحوتاتها رموزاً لآلهتهم.
-عبادة النجوم
جاء تأليه بعض العرب في الجاهلية للنجوم من احتكاكهم بالشعوب المجاورة التي كانت تؤمن بهذه المعتقدات، وكذلك من حاجتهم العملية لضبط الوقت والاهتداء بالنجوم في أسفارهم، وتحديد الجهات، وبمرور الوقت قاد اهتمامهم بالنجوم إلى تأليهها، فعبدوا الزهرة "وكانوا يسمونه العزى"، كما عبدوا الشمس والقمر.
فقالت أميمة بنت عبد شمس وهي ترثي من قتل من قومها:
أبى ليلك لا يذهب *** ونيط الطرف بالكوكب
ونجم دونه الأهوال *** بين الدلو والعقرب
وقال الشاعر الجاهلي النجدي بشر بن أبي حازم:
أراقب في السماء بنات نعش *** وقد دارت كما عطف السوار
الشجاعة والحرب :
وكان التفاخر بالشجاعة والحرب والدفاع عن القبيلة من أهم الصفات المحمودة عندهم وقد ظهر أثرها واضحا وكثيرا ما تغنى بها الشعراء في مختلف الوقائع
وفي أيام تغلب على بكر يوم الذئاب
قالعدي بن ربيعة التغلبي الملقب الزير أبو ليلى المُهَلهِل قصيدة منها :
هتكتُ به بيوتَ بني عُباد *** وبعضُ القتل أشفى للصدور
على أن ليس عدلا من كليبٍ *** اذا برزت مُخبأَةُ الخدور
لولا الريحُ أثسمعُ من بحَجْرٍ *** صليلَ البَيْض تقرعُ بالذّكور
وكان للمرأة نصيب في مثل هذه المواقف ، لما قتل كليب اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت كليب رحِّلي جليلة عن مأتمنا، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب ، فقالت لها أخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا ، وشقيقة قاتلنا ، ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويل غدا لآل مرة من الكرَّة بعد الكرَّة ، فبلغ قولها جليلة فقالت وكيف تشمت الحرَّة بهتك سترها، وترقب وترِها أفلا قالت نُفرةَ الحياء، وخوف الاعتداء
ثم أنشأت تقول ( وهو من أبرع ما قيل في معناه)
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا *** تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينتِ الذي *** يوجبُ اللوم فلومي واعذُلي
إن تكن أخت امرئٍ لِيمَتْ على *** شفقٍ منها عليهِ فافعلي
الحكمة:
ومن أثر الحكمة في الشعر الجاهلي
وفي وقعة الهباءة يقول قيس الرأي في فلسفة تنم عن رجاحة العقل وسعة التفكير وتقدير المواقف ، يرثي في قصيدته حذيفة بن بدر الذي كان خصمه يوم داحس والغبراء :
تَعَلَّم أَنَّ خَيرَ الناسِ مَيتٌ *** عَلى جَفرِ الهَباءَةِ لا يَريمُ
لقد فُجعت به قيس جميعاً *** موالي القوم والقومُ الصميمُ
وعم به لمقتلهِ بعيدٌ *** وخصَّ به لمقتله صميمُ
وَلَولا ظُلمُهُ مازِلتُ اَبكي *** عَلَيهِ الدَهرَ ما طَلَعَ النُجومُ
وَلَكِنَّ الفَتى حَمَلَ بنَ بَدرٍ *** بَغى وَالبَغيُ مَرتَعُهُ وَخيمُ
أَظُنُّ الحِلمَ دَلَّ عَلَيَّ قَومي *** وَقَد يُستَجهَلُ الرَجُلُ الحَليمُ
الرثاء :
هو تِعداد خِصال الميت مع التفجّع عليه والتأسّي والتعزّي بما كان يتصف به من صفات حسنة كالكرم والشجاعة والعفة والعدل والعقل ونصرة المظلوم.
وفي قصيدة الرثاء هذه نجد أثر التبعية المطلقة والطاعة العمياء للقبيلة هي السائدة في كل الأمور حتى وإن كان الشخص حكيما ذا رأي ونتبين ذلك من خلال القصيدة الرائعة التي رثى بها دريد بن الصمة أخاه عبد الله الذي قتلته قبيلة غطفان :
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ***فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى ***غِوَايَتَهُمْ وأنَّـني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ ***غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ
وإنْ تُعقِبِ الأيامُ والدهرُ تعلمُوا ***بَني قاربٍ أنَّا غِضَابٌ بِمَعْبَدِ
تَنادَوْا فَقالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فارِسًــا *** فقُلتُ أَعَبْدُ اللهِ ذِلِكمُ الرَّدِي
وإِنْ يَكُ عَبْــــدُ اللهِ خَلَّى مَكَانَـهُ *** فَمَا كَانَ وَقَّافًا ولا طائشَ اليَدِ
ولا برِمًا إذَا الرياحُ تَنَاوَحَـتْ ***بِرَطْبِ العِضَاهِ وَالضَّرِيعِ المُعَضَّدِ
أثر العناصر الملحمية والحماسة والعزة في الشعر الجاهلي:
قال عمرو بن كلثوم في معلقته:
أبَا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا *** وأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
بِأَنَّا نُورِدُ الرَّايَاتِ بِيضاً *** ونُصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
وأَيَّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍ *** عَصَيْنا المَلْكَ فِيها أنْ نَدِينا
وسَيِّدِ مَعْشَرٍ قَدْ تَوَّجُوهُ ****بِتاجِ المُلْكِ يَحْمِي المُحْجَرِينا
تَرَكْنا الخَيْلَ عاكِفَةً عَلَيْهِ *** مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَها صُفُونا
وأَنْزَلْنا البُيُوتَ بِذي طُلُوحٍ *** إِلَى الشَّاماتِ تَنْفِي المُوعِدِينا
وقَدْ هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ مِنَّا *** وشَذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يِلِينا
مَتَى نَنْقُلْ إلى قَوْمٍ رَحَانَا *** يَكُونُوا في اللِّقاءِ لَها طَحِينا
أثر الأخلاق الحميدة في احترام المرأة في الشعر الجاهلي
قال عنترة بن شداد في احترام جارته :
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي *** حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ *** لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
وَلَئِن سَأَلتَ بِذاكَ عَبلَةَ خَبَّرَت *** أَن لا أُريدُ مِنَ النِساءِ سِواها
وَأُجيبُها إِمّا دَعَت لِعَظيمَةٍ *** وَأُغيثُها وَأَعِفُّ عَمّا ساها
تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة والانتقال من الغزل إلى الوصف، لتشمل مواضيع متعددة مثل الوقوف على الأطلال والتصوير القصصي ووصف الفرس والليل والطبيعة ورحلة الصيد والمغامرات. وهذه العوامل بمجموعها أثرت في الشعر الجاهلي تأثيراً بالغاً وأعطت صورة عن تفاعل الشاعر في محيطه وتأثيره وتأثره فيه ، وخير مثال على ذلك معلقة أمرئ القيس
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ ***بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُه *** لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ
تَرى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِه *** وَقيعانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ
كَأَنّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلو *** لَدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِيِّهُم *** يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَمَّلِ
وَإِنَّ شِفائي عَبرَةٌ مَهَراقَةٌ *** فَهَل عِندَ رَسمٍ دارِسٍ مِن مُعَوَّلِ
الكرم في الجاهلية
قال أحد الحكماء : أصل المحاسن كلها الكرم وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام وجميع خصال الخير من فروعه.
ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي وظهر منهم في كل عصر ومصر أقطاب اشتهرت بالكرم وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء وكان من أبرزهم وأشهرهم حاتم الطائي الذي كان مضرب المثل فيهم بالكرم.
ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً عبد الله بن جدعان وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير فغرق . وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن حتى سمع قـول أميــه بــن أبـــى الصلــت
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهــــم *** فرأيت أكرمهم بنـى الديــــان
البر يُلبـك بالشهـاد طعامهــــم *** لا ما يعللنــا بنــو جدعـــان
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير تحمل البر والشهد والسمن وجعل منادياً ينادى كل ليله على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنه ابن جدعان فقال أميه في ذلك
له داع بمكـة مشمعـــــل *** وآخر فـوق كعبتهــا ينـــــادى
إلى روح مـــن الشّيـزَى مـلاء *** لبــــاب البـــر يلبك بالشهاد
والشيز : خشب اسود تتخذ منه القِصَاع .
المرأة في الشعر الجاهلي :
لعبت المرأة دورا كبيرا في ثقافة المجتمع الجاهلي وكان لها دوراً فاعلا في حياة المجتمع الجاهلي وكانت تقف الى جانب الرجل في مختلف المحافل ويبرز دورها واضحاً عندما تقدم في المجالس والمناسبات وتقول الشعر ،وخير مثال على ذلك الخنساء والخرنق أخت طرفة بن العبد لأمه وكان لهاتين الشاعرتين أثرا كبيرا في الشعر العربي وأغراضه
قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
يا عينُ فِيضي بدَمْعٍ منكِ مِغْزارِ *** وابكي لصخرٍ بدمعٍ منكِ مدرارِ
انّي أرقتُ فبتُّ الَّليلَ ساهرة ً *** كانَّما كحلتْ عيني بعوَّارِ
أرعى النُّجومَ وما كلّفتُ رعيتها *** وتارَة ً أتَغَشّى فضْلَ أطْمارِي
وقَدْ سَمِعْتُ فلمْ أبْهَجْ به خَبراً *** مخبّراً قامَ يَنْمِي رَجْعَ أخبارِ
وقالت الخرنق بنت بدر بن هفان:
لا يَبعَدَن قَومي الَّذينَ هُمُ **** سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجُزرِ
النازِلونَ بِكُلَّ مُعتَرَكٍ **** وَالطَيَّبونَ مَعاقِدَ الأُزرِ
الضارِبونَ بِحَومَةٍ نَزَلَت **** وَالطاعِنونَ بِأَذرُعٍ شُعرِ
المحور الثاني :
الرسالة الاسلامية ودورها في تطور اتجاهات الشعر العربي .
شهدت هذه الفترة تحولاً فكرياً وثقافياً عظيماً في تاريخ البشرية وليس على نطاق شبه الجزيرة العربية فقط . وبعد مجئ الوحي الى الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن ، الذي غير جميع المفاهيم والمعتقدات التي سادت على أفكار وعقول الناس ولفترات طويلة، فالغى القران الكريم وسنة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام المعتقدات الشركية والولاءات العرقية والنعرات القبيلة والتفاخر بالأنساب والعبودية وجميع الأفكار السلطوية والإحتكام الى كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم ، وشاع مبدأ المساواة بين المرأة والرجل فقد جاء في محكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)
وقد تميزت خصائص الشعر في هذه الفترة بتغير المعاني بسبب تأثرها بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وابتعد الشعراء عن الغلظة والجفاء لوجود العاطفة الإسلامية الرقيقة مثل الورع والتقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى ،فجاء الشعر سلس الألفاظ مفهوم المعنى بعيداً عن التكلف
قال شوقي ضيف:
ودفعتني النصوص الكثيرة في عصر صدر الإسلام الى نقض الفكرة التي شاعت في أوساط الباحثين من عرب ومستشرقين ، إذ ذهبوا يزعمون أن الإسلام انحسر عن أثر ضئيل نحيل في أشعار المخضرمين. وهو زعم يسرف في تجاوز الحق ، فقد أتم الله على هؤلاء الشعراء نعمة الإسلام ، وانتظم كثيرون منهم في صفوف المجاهدين في سبيل الله داخل الجزيرة العربية وفي الفتوح . وهم في ذلك كله يستلهمون الإسلام، ويعيشون له، ويعيشون به، يريدون أن ينشروا نوره في أطباق الأرض، وقد مضوا يصدرون عنه في أشعارهم صدور الشّذى عن الأزهار الأرجة. وبالمثل صدروا عنه في نثرهم. فإذا هم يستحدثون فنوناً من النثر وينشئونها إنشاء. إذ أنشأوا على هدي القرآن الكريم آيات بديعة من المواعظ الدينية . إنتهى.
وأكد الاسلام على الصفات الرشيدة والأخلاق الحميدة التي جائت عن أسلافهم
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق )رواه أحمد . وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:( لما بلغ أبا ذر مبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ) رواه البخاري
في الأخلاق عامة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( خياركم أحاسنكم أخلاقا ) رواه الترمذي . وقال: ( إن من أحبكم إلىَّ أحسنكم أخلاقاً ) رواه البخاري
وفي معاملة الوالدين وبرهما، والاهتمام بهما وتقديهما على غيرهما : جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك، قال : ثم من؟ قال : أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك ) رواه مسلم .
وفي معاملة الزوجة خاصة، والمرأة عامة ـ سواء كانت أماً أو أختاً أو بنتا أو زوجة ـ يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي .. و قال عليه الصلاة و السلام : ( استوصوا بالنساء خيراً ) رواه البخاري
وحفاظا على المجتمع من انتشار الرذيلة واعتيادها : كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بالستر وينهى عن الفضيحة فيقول: ( من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) رواه البخاري
ويهتم بأمر الجار والضيف فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) رواه البخاري
وقد أثرت هذه المواقف التعليمية والتهذيبة اثرا بالغاً في حياة المجتمع العربي وظهرت آثارها واضحة في الشعر العربي
لقد شجع الرسول صلى الله عليه وسلم الشعراء المسلمين على التصدي لشعراء العرب الذين عادوا الإسلام، ولم يكن موقف الإسلام من الشعر بذاته بقدر ما أكد على المحتوى الذي يحمل معاني الأخلاق والقيم النبيلة، ويلتزم تعاليم الدين الحنيف ومكارم الأخلاق التي ورثتها الأمة عن أسلافها. كما وابتعد الشعراء عن كل ما يشين وينتقص من الآخرين من فحش الكلام وبذيئه ولا يهجو الشاعر إلا من أساء وتجاوز حدود الأخلاق واحترام القيم النبيلة .
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يمدح رسول الله ويبين قيمة رسالته وأثرها:
أغرُّ، عليهِ للنُّبوَّةِ خاتمٌ مِنَ اللَّهِ مَشهُودٌ يَلوحُ ويُشهَدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ، إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقَّ لهُ مِن اسمهِ ليُجلَّهُ فذو العرشِ مَحمودٌ، وهذا مُحمَّدُ
نَبيٌّ أتانَا بَعدَ يَأسٍ وفترَةٍ مِنَ الرُّسلِ، والأوثانِ في الأرضِ تُعبَدُ
فَأمْسَى سِرَاجاً مُستَنيراً وهَادِياً، يَلُوحُ كَما لاحَ الصَّقِيلُ المُهنَّدُ
وأنذَرَنا ناراً، وبشَّرَ جنَّةً، وعلَّمَنا الإسلامَ، فالله نَحمَدُ
وأنتَ إلهُ الخَلقِ ربِّي وخالِقي بذلكَ ما عمرت في الناسِ أشْهَدُ
تعالَيْتَ رَبَّ الناسِ عن قَوْلِ مَنْ دَعا سِواكَ إلهاً، أنتَ أعلى وأمْجَدُ
لكَ الخلقُ والنعماءُ، والأمرُ كلهُ فإيَّاكَ نَستهدي وإيَّاكَ نَعْبُدُ
صوَّر حسان بن ثابت في شِعره خسارة قوم النبي ﷺ عندما حاربوه ونبذوه
فنلاحظ أن الخطاب تحول من الخاص الى العام :
جزى الله ربُّ الناسِ خيرَ جزائهِ رفيقينِ قالا خيْمتـَي أمَّ مَعبَدِ
هُما نزلاها بالهُدى واهتدتْ بهِ فقدْ فازَ مَنْ أمسى رفيقَ مُحمَّدِ
فيا لـقصيٍّ ما زوى اللهُ عنكمُ بهِ مِن فِخارٍ لا يُجارى وسؤدَدِ
لِيُهنِ بني كعبٍ مقامُ فتاتِهم ومَقعدُها للمؤمنينَ بمَرصَدِ
سلوا أختكم عن شاتِها وإنائِها فإنَّكم إنْ تسألوا الشَّاةَ تشهدِ
كان حسان بن ثابت يرثي شهداء المسلمين ويخلد معاركهم
إلى جانب حبِّه الكبير للرسول ﷺ وما قاله فيه مديحاً ورثاءً بعد وفاته كان حسان بن ثابت يستخدم الشعر في تخليد معارك المسلمين ورثاء شهدائهم، وكان بذلك يشارك بالحرب النفسية إن صح القول، ومن بين هذه القصائد قوله في شهداء مؤتة:
فلا يُبعِدَنَّ اللهُ قَتلى تتابعوا *** بمُؤتةَ مِنهُم ذو الجناحَينِ جعفرُ
وزيدٌ وعبدُ الله حينَ تَتابَعوا *** جَميعاً وأسبابُ المنيَّةِ تَخطِرُ
غداةَ غدوا بالمُؤمِنينَ يَقودُهُم *** إِلى المَوتِ مَيمونُ النَقيبَةِ أَزهَرُ
أغرُّ كلونَ البَدرِ مِن آلِ هاشمٍ *** شجاعٌ إِذا سيمَ الظلامَةَ مِجسَرُ
فَطاعنَ حَتَّى ماتَ غيرَ مُوَسَّدٍ *** بِمُعتركٍ فيهِ القَنا يَتَكَسَّرُ
فَصارَ مع المُستَشهِدينَ ثَوابُهُ *** جِنانٌ ومُلتفُّ الحدائِقِ أخضَرُ
قصيدة في ذكر عظمة الأمة ورسولها في ظل الاسلام
وسمع الرسولُ النابغةّ الجعدي وهو يُنشد من القصيدة:
أتيتُ رسول الله إذ جاء بالهدى ***ويتلو كتابًا كالمجرّة نيّرا
بلغنا السما مجدًا وجودًا وسؤدَدًا ***وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال الرسول الكريم: فأين المظهر يا أبا ليلى؟
قال: الجنة.
فقال النبي: قل- أجل، إن شاء الله
ثم قال له أنشدني، فأنشده:
وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ *** بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرَا
وَلاَ خَيْرَ في جَهْل إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ *** حَلِيـْمٌ إذَا ما أوْرَد الأمْـرَ أصْـدَرَا
فقال الرسول:لا يفضضِ الله فاك
أي: لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف.
العفو والصفح عن المسئ : عندما جاء كعب بن زهير الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلماً وتائباً معتذراً عما بدا منه من هجاء المسلمين عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قصيدته العصماء التي سميت بالبردة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلع عليه بردته تكريماً له :
نُبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم *** أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
إن الرسول لنور يُستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلول
التحدي في المواقف الشديدة
كان الشاعر في الجاهلية ينحاز بالكامل لقبيلته وقومه في الدفاع عنهم والفخر بهم ، ولكن في الاسلام تغيرت المواقف وظهر أثر الدين الحنيف جليا في مختلف المواقف والمناسبات .
وفي يوم أحد يقول ابن سلام عن حسان بن ثابت هو كثير الشعر جيده، ويقال إن أول ما جرى به لسانه حين سله على قريش هذه الأبيات يتحدى بها أبا سفيان بن الحارث:
هجوت محمداً فاجبتُ عنه *** وعند الله في ذاك الجزاءُ
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمدٍ منكم وقاءُ
أتهجوه ولست له بكفءٍ *** فشركما لخيركما الفداءُ
ويظهر التحدي واضحا في هذه الأبيات ، كان الشعراء قبل هذا يتحاشون المساس بالأصنام لأنها تمثل قدسية المعتقد عند قريش وسائر القبائل العربية قال حسان بن ثابت:
أَمّا قُرَيشٌ فَإِنّي غَيرُ تارِكِهِم *** حَتّى يُنيبوا مِنَ الغِيّاثِ لِلرَشَدِ
وَيَترُكوا اللاتَ وَالعِزّى بِمَعزِلَةٍ ***وَيَسجُدوا كُلُّهُم لِلخالِقِ الصَمَدِ
وَيَشهَدوا أَنَّ ما قالَ الرَسولُ لَهُم *** حَقٌّ وَيوفوا بِعَهدِ الواحِدِ الأَحَدِ
أثر حروب الردة في الشعر
اذا كانت المعارك التي دارت رحاها بين مشركي قريش ومن ناصرهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصاره قد خلفت ملاحم كبيرة فان حروب الردة هي الأخرى خلفت أشعاراً كثيرة في الوعظ والإنذار والتخويف والترهيب من مغبة الخروج عن جادة الصواب.
ومنها قول الحارث بن مرة في وعظه بني عامر:
بني عامرٍ إن تنصروا الله تُنصروا *** وإن تَنْصبوا الله والدين تُخْذَلوا
وإن تُهْزموا لا يُنجكمْ منه مهربٌ *** وإن تثبتوا للقوم والله تُقتلوا
وكان في بعضها حماسة دينية يهتف بها المحاربون من المسلمين من مثل قول أوس بن بُجَير الطائي في موقعة بُزاخة:
وليت أبا بكرٍ يرى من سيوفنا *** وما تختلي من أذرعٍ ورقابِ
ألم تر أن الله لا رب غيره *** يصب على الكفار سوط عذابِ
وفيها إقتباس لطيف من القرآن الكريم ، ولم يتجاوز فيه الشاعر ضوابط الشريعة ولا اللغة والبلاغة .
ولكن قد أساء بعض الشعراء في عهود مختلفة هذا الإستخدام وخصوصا في عصرنا الحاضر، حيث بلغت اللغة العربية مستويات متدنية مما حدا بعلماء المسلمين وضع ضوابط لمثل هذه الاقتباسات.
جاء في قرار مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف:
إن الاقتباس من القرآن الكريم غير جائز في المجالات الآتية:
- حديث الله عن نفسه ، فلا يجوز لإنسان أن ينسبه إلى نفسه
- مواطن الاستخفاف والاستهزاء والسياق الهزلي.
- استخدام النص القرآني لغاية مخالفة لهدايته ومقاصده.
أما إذا كان الاقتباس من القرآن الكريم لا يوهم إسناد الآيات القرآنية إلى غير الله ، فهو جائز، أما إذا كان الاقتباس موهما يكون حراما .انتهى
الرثاء في عهد الخلفاء الراشدين
وعندما توفي أبو بكر الصديق في السنة الثالثة للهجرة قرير العين بما أدى لله ولرسوله، وكان آخر ما تكلم به (ربي توفني مسلما وألحقني بالصالحين) ،رثاه حسان بن ثابت بخير الشعر وأحسنه وقد تميزت هذه القصيدة بصدق التعبير وذكر الصفات الحقيقية بخلاف ما كان يبدر من بعض الشعراء في الجاهلية من تمجيد وتعظيم يفوق الواقع كثيراً فقال:
إِذا تَذَكَّرتَ شَجواً مِن أَخي ثِقَةٍ **** فَاِذكُر أَخاكَ أَبا بَكرٍ بِما فَعَلا
خَيرَ البَرِيَّةِ أَتقاها وَأَعدَلَها **** إِلّا النَبِيَّ وَأَوفاها بِما حَمَلا
وَالثانِيَ الصادِقَ المَحمودَ مَشهَدُهُ **** وَأَوَّلَ الناسِ مِنهُم صَدَّقَ الرُسُلا
وَثانِيَ اِثنَينِ في الغارِ المُنيفِ وَقَد **** طافَ العَدُوُّ بِهِ إِذ صَعَّدَ الجَبَلا
عاشَ حَميداً لِأَمرِ اللَهِ مُتَّبِعاً **** بِهَديِ صاحِبِهِ الماضي وَما اِنتَقَلا
وَكانَ حِبَّ رَسولِ اللَهِ قَد عَلِموا **** مِنَ البَرِيَّةِ لَم يَعدِل بِهِ رَجُلا
المحور الثالث :
العصر العباسي وأثر المدنية والانفتاح الثقافي في الشعر العربي
إن حياة المدنية الحديثة والإنفتاح الكبير على مختلف الحضارت في هذا العصر فرض على الأدباء واقعه سواء في الحياة الاجتماعية أو الثقافية وما شاع في تلك الفترة من تحضر وترف ترافقت معها أمور كثيرة منها المجون والزندقة والزهد والنسك، وفي الجانب الفكري أدخلت الفلسفة والمنطق اليوناني ونقل علوم مختلفة أثرت تأثيرا بالغا في حياة المجتمع العربي في تلك الفترة وما تلاها.
وقد ازدهرت علوم اللغة العربية والشعر ازدهارا لا مثيل له في التاريخ . اذ تهافت الشعراء على اللغة العربية باعتبارها ملاذاً لإتقان الملكة اللغوية وحفظ جزالة اللفظ وجمال الأدب.
ومن بين أعلام الشعراء الذين برزوا في ذلك العصر ، بشار بن برد وأبو نؤاس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام، ثم جاء بعدهم المتنبي الذي بلغ في الشعر العربي وصياغة الجملة العربية مبلغا لم يصل اليه أحد
وكل هذه المتغيرات التي ذكرنا كان لها أثرا بالغا في تطور حركة الشعر التقليدية وعناصره التجديدية وتدافع تيار القديم الموروث دون تعويق لتيار التجديد وما حمله من أفكار عقلية أو اجتماعية .
وكان مسلم بن الوليد من المحافظين على ابنية الشعر المحكمة الشامخة مع التدقيق الشديد في المعاني والإكثار من ألوان البديع
ومن شعره:
ذَهِلتُ فَلَم أَنقَع غَليلاً بِعَبرَةٍ *** وَأَكبَرتُ أَن أَلقى بِيَومِكَ ناعِيا
فَلَمّا بَدا لي أَنَّهُ لاعِجُ الأَسى *** وَأَن لَيسَ إِلّا الدَمعُ لِلحُزنِ شافِيا
أَقَمتُ لَكَ الأَنواحَ تَرتَدُّ بَينَها *** مَآتِمُ يَندُبنَ النَدى وَالمَعالِيا
وقال ايضاً:
كَم نِعمَةٍ لَكَ لا تَنفَكُّ مُوَجِبَةً *** شُكراً وَمِن نِعمَةٍ لَم تَنجُ مِن عَطَبِ
إِذا العِدا أَوقَدوا ناراً لِفِتنَتِهِم *** أَطفَأتَها بِزُجاجِ الخَطِّ وَالقُضُبِ
فَمَن يُرِدكَ لِحَربٍ يَجتَنَ عَطَباً *** وَمَن أَتاكَ لِبَذلِ العُرفِ لَم يَخِبِ
شعر المجون
كان لحياة المدنية والتحضر وسعة العيش ورخاء البلاد ،أثركبير في الشعر العربي فساد الشعر الماجن وبرع فيه أبو نؤاس وهو شاعر كبير له القدرة على نظم الاشعار البديعة التي ترقى الى درجة الشعر الجاهلي جزالة وبلاغة
قال كلثوم العتابي: لو أدرك أبو نواس الجاهلية ما فضل عليه أحد. وقال الإمام الشافعي: لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم. وحكى أبو نواس عن نفسه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب. فما طنك بالرجال؟ وهو أول من نهج للشعر طريقته الحضرية وأخرجه من اللهجة البدوية. وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خمرياته
لِتِلكَ أَبكي وَلا أَبكي لِمَنزِلَةٍ *** كانَت تَحُلُّ بِها هِندٌ وَأَسماءُ
حاشا لِدُرَّةَ أَن تُبنى الخِيامُ لَها *** وَأَن تَروحَ عَلَيها الإِبلُ وَالشاءُ
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً ***حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ اِمرَأً حَرِجاً ***فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدينِ إِزراءُ
وقال ايضا :
بادِر فَإِنَّ جِنانَ الكَرخِ مونِقَةٌ *** لَم تَلتَقِفها يَدٌ لِلحَربِ عَسراءُ
فيها مِنَ الطَيرِ أَصنافٌ مُشَتَّتَةٌ ***ما بَينَهُنَّ وَبَينَ النُطقِ شَحناءُ
الزهد ومناجاة الباري سبحانه وتعالى:
لقد كان لهذا الأثر أهمية بالغة في مسيرة الشعر العربي الخالد ، فقد ابدعوا في مختلف الأغراض وقد برعوا في شعر الزهد ومناجاة الله سبحانه وتعالى وانعكست صور الأيمان بالله سبحانه وتعالى في الشعر باساليب في غاية الرقة والعذوبة وتدل دلالة واضحة على سمو الروح وتزكيتها بالتقوى وصفاء السريرة والإخلاص في العبادة وتعظيم تلك العلاقة المطلقة بين العبد وربه، واليقين الصادق بالوعد المنجز عند التوبة والاستغفار
و كان الإمام الشافعي يجود بأشهر القصائد في مناجاة الله سبحانه وتعالى، ويثني عليه بما وصف به نفسه في كتابه ، وما ورد في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
فقال في قصيدة له:
إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ***وإنْ كنتُ يا ذا المنِّ والجودِ مجرما
ولـمَّـا قسا قلبي وضاقتْ مذاهبي ***جعلْتُ الرَّجا مني لِعفوكَ سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلـمَّـا قرنْتُهُ *** بعفوِكَ ربي كانَ عفوُكَ أعظما
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لمْ تزلْ ***تجودُ وتعفو مِنَّةً وتكرُّما
ويأتي ابو العتاهية بشعر يفوح حكمة وزهداً وتبتلاً، ويعد من مقدمي المولدين من طبقة بشار وأبي نؤاس وغيرهم . وقد غلبت آثار الزهد والإنصراف عن الدنيا وملذاتها على عامة شعره بشكل واضح
قال في إحدى قصائده:
أَشَدُّ الجِهادِ جِهادُ الهَوى *** وَما كَرَّمَ المَرءَ إِلّا التُقى
وَأَخلاقُ ذي الفَضلِ مَعروفَةٌ *** بِبَذلِ الجَميلِ وَكَفِّ الأَذى
وَكُلُّ الفُكاهاتِ مَملولَةٌ *** وَطولُ التَعاشُرِ فيهِ القِلى
وَكُلُّ طَريفٍ لَهُ لَذَّةٌ *** وَكُلُّ تَليدٍ سَريعُ البِلى
وَلا شَيءَ إِلّا لَهُ آفَةٌ *** وَلا شَيءَ إِلّا لَهُ مُنتَهى
وَلَيسَ الغِنى نَشَبٌ في يَدٍ *** وَلَكِن غِنى النَفسِ كُلُّ الغِنى
وَإِنّا لَفي صُنُعٍ ظاهِرٍ *** يَدُلُّ عَلى صانِعٍ لا يُرى
أثر التجديد في الشعر العربي
أبو تمام رائد التجديد
ابو تمام شاعر يمتاز ببراعته وتفرده بالمطالع الإستهلالية الرائعة التي تمتاز بالفخامة والجزالة وقوة السبك وإحكامه وجمال التعبير ودقته وعذوبة الألفاظ ورقتها وبيان المعاني وسلاستها وترابط العبارات وتجانسها، فجاء شعره متجانس الألفاظ في تناسق متسلسل يعكس طريقة الشاعر وقوة تركيزه الذهني في إحكام بناء البيت الشعري موضحة اسلوب التضاد والتناقض التي يقصدها الشاعر ، وهذه الخصائص الفكرية تبرز أمكانية الشاعر وتكيفه مع المواقف المختلفة التي تمكنه من بلوغ أهدافه وأغراضة بكل امكانية واقتدار
وفي قصيدته المشهورة:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ****في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في *** مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً ***بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما ***صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ
تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً *** لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ
وفي الختام إن ما قدمته ما هو الا شذرات من التراث الشعري الثري بالعجائب والذي أثر وتأثر بمختلف المتغيرات الثقافية والاجتماعية على مر العصور
ولا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل الى كل القائمين على هذه المنصة الثقافية على جهودهم في إدارة هذه الندوة مع فائق تقديري واحترامي
أثر العادات والتقاليد الاجتماعية في الشعر العربي عبر العصور #
الشعر الجاهلي #
ديانات الجزيرة العربية #
عصر صدر الاسلام #
الاخلاق الحميدة #
التحدي #
الرثاء #
حسان بن ثابت #
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم #
المرأة #
الزهد #
التجديد في الشعر #
حروب الردة #
التنوع الاجتماعي والديني واثره في الشعر قبل الاسلام #
الرسالة الاسلامية ودورها في تطور اتجاهات الشعر العربي #
العصر العباسي وأثر المدنية والانفتاح الثقافي في الشعر العربي #
الشعر العربي #
الشعر والمجتمع #
العادات والشعر #
التربية والشعر #
العادات #
التقاليد #