Monday, December 25, 2023

(ثرثرةُ نهار) بقلم الكاتب والباحث علي محمد العبيدي

 دراسة نقدية النص الذي كتبه الأديب علاء الدين الحمداني الحمداني (ثرثرةُ نهار)

بقلم الكاتب والباحث علي محمد العبيدي
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
لهذا النهارِ ملامحُ جارتِنا السبعينيةِ بتجاعيدِها العميقةِ تفترشُ البابَ ،
سدرتُنا المتيبسةُ منذ سنواتٍ لم يعدْ سُقياها ذا فائدةٍ ، نفضت اوراقها منذ سنين طوال . هجرتها العصافير ... وجهي في المرآةِ لا أميزُهُ .. سياجُنا المتداعي تسندهُ بقايا شجرةِ الصفصافِ العتيدةِ .. قِنُّ الدجاجِ المتهالكِ خلفَ الدارِ باتَ مأوىً للقططِ .. صديقتي لم تفارقْها فكرةُ نفخِ ثدييها على الرغمِ من نحافتِها الشديدةِ ..
الدغلُ ينبتُ بجوارِ شجرةِ الآسِ غائراً في جذورِها .. لم تعدْ والدتي تنشرُ غسيلَها على السطحِ .. مفاصلُها تآكلت .. أبو سعيد الملاصقُ لبيتِنا صاحبُ التسعينَ عاماً أسمعُ صوتَهُ وهو يتذمرُ كثيراً حين يحممهُ أبنهُ في باحة الدار ...
من غرفةٍ مجاورةٍ شباكُها عالٍ تضحكُ صَبيةٌ وأختُها الفَتَيَّةُ ..تَعَوَدتا منظرَ الرجل المُسن العاري في الطَستِ ..
صوتُ أمُّ صلاحِ الصاخبِ.. المتسلطةِ والبدينة تهرعُ الى الشارعِ حاملةً مكنسةً وتكادُ تُجنُّ .. تطاردُ الهرَّ ..الذي أختارَ كرسيها الهزاز للبرازِ ... زوجها النحيل أبو صلاح متشمتٌ ومُتَشَفي وهو مُنكَبٌ على غسلِ الصحونِ ..
الحملُ ثقيلٌ على ظهرِ تلكَ العجوزِ وهي تحملُ قنانيَ الألمنيومِ الفارغةِ وبعضٍ من مخلفاتِ البلاستيك وفي فمها سيكار بلا فلتر على ما يبدو مطفأة ..
مثلَ حصانٍ نافقٍ من ترقدُ في الجراجِ بأطاراتِها المتهالكةِ سيارةُ أبي رحمهُ اللهُ .. أرثٌ ثقيلٌ .. وتركةٌ باليةٌ .
كلُّ شيءٍ بالٍ .. الإزقةُ.. الشوارعُ القديمةُ بأخاديدها الجوفاءِ .. صحفُ الاحزابِ البليدةِ .. المقبرةُ الملاصقةُ لزقاقِنا الضيقِ .. مهجورةٌ لا مكانَ فيها للدفنِ .. الجسورُ متداعيةٌ ..
منذ زمنٍ بعيدٍ هاجرتنا اللقالقُ من فوقِ كنيسةِ أمِّ الأحزانِ في شورجةِ بغدادَ ..
ملامحُ المارةِ شاحبةٌ يعتليها وجوم وعيونهم جاحظة ..
أعمدةُ الكهرباءِ مثقلةٌ بالاسلاكِ مكتضةٌ بِصورِ الراحلين ..
كم أفتقدُ الأرصفةَ لاوجودَ لها ... لربَّما أصابها الاندثارُ فلا مكانَ للمسيرِ ...
تجاعيدُها كثيرةٌ تلك اليد التي تربت على كتفي .. وأنا يَضجُّني المللُ وأحاولُ الهروبَ من هذهِ الرتابةِ المفعمةِ بالغربةِ ... بصوت خفيض همست لا تحفلْ يا بُني كلُّ شيءٍ آيلٍ للسقوطِ.. بأمكانكَ إعطائي سيجارةً وبعضَ النقودِ .. نقدتها ما تيسرَ وقاسمتها السكائرَ ..ومضيتُ ..
وحدها تلك المواكبُ كواكبٌ في وضحِ النهارِ تجوبُ الرحابَ بالرفضِ وبالصراخِ ...
آآهٍ لو ألجُ رأسي في الطينِ.. تراودني فكرةٌ ربما ساذجةٌ .لكل التداعيات ، تدعوني للضحكِ ..لو أعملُ ُفلر ... سأبدو مقرفاً.. لربما يصيبني مَسٌّ من الجنون وأنا أحثُّ الخطى بين كلِّ هذا التناقضِ الغريبِ .. المريبُ في الامرِ ..
كيف يرانا اللهُ
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
يصور لنا الشاعر العديد من الحالات أو العينات التي رصدها من واقع الحياة والتي تدور أحداثها في أماكن مختلفة من نفس البيئة التي يعيشها هو أو أي فرد يعيش معه ويتجول في نفس المدينة ويرتاد الأماكن والحالات التي رصدها الشاعر.
مستغلا قدراته الفنية في تطويع هذا العمل الأدبي لكشف الواقع الخفي من حياة شرائح المجتمع المتعددة غطت عليها ظروف اجتماعية وسياسية ومتغيرات سريعة اجتاحت كل الشرائح الاجتماعية على مختلف الاصعدة والتي صورها الكاتب بطريقة إنسانية لطيفة لا تخلو من الطرافة والسخرية في بعض الأحيان ولكنها حملت مغزى بعيد أراد الكاتب أن يظهره على طريقته الخاصة. وهي طريقة ذكية في رصد الكاتب لهذه الشرائح وتمكنه من رسم مشاهد الواقع وما طرأ عليه ، وقد وظف امكانياته في محاكاة هذه الشخصيات ليكون هذا العمل تعبيرا دقيقاَ لآرائهم في الحياة ، وكانت طريقة العرض هذه بمثابة وضع ركائز اساسية لمعرفة الوضع الاجتماعي ومن خلالها يمكن معرفة وتحديد العلاقة في التعامل ومقارنتها مع النموذج الانساني الذي يحفظ للانسان كل حقوقه في الحياة.
لكن الشيء الذي يشد المتلقي نحو النص هو طريقة التصوير الفني للشاعر الذي وضع نفسه موضع المتعايش مع الاحداث وطريقة وصف الأشياء بدقائقها من الاوراق المتساقطة إلى الأغصان اليابسة والمتكسرة إلى وصف الابنية المتهالكة إلى الشارع والرصيف والجسور وحتى الأعشاب والحشائش . بالإضافة إلى نقطة في غاية الأهمية هي عرض جوانب من حياة الأشخاص الذين يسكنون هذه المناطق. وهنا أعطى النص حيوية كبيرة وحالة من الإثارة أشبعت النص وزادت من حالة تخيل الأشياء بدقة من قبل المتلقي .
وهي في اساسها حالة غريبة من احتدام الأفكار في رأسه قادته إلى تصوير هذه الأماكن والاشخاص وكأنه قصدها لرغبة في نفسه لتحقيق أهداف واضحة الملامح .
الطريقة السمحة التي استخدمها الكاتب في مسار النص وكسر حالة جموده في قالب معين إلى انفتاحه على مواقف واحداث مختلفة شكلا وتتفق في نتائجها.
قوة وترابط ملابسة الأحداث وربطها باواصر قوية توضح العلاقات في الحوادث بالرغم من تغير الأماكن.
مع إظهار هذه القوى بانها تشير بعضها إلى بعض .
وهذه الحالة مع مرافقة المجاز البلاغي والتشبيهات التي استخدمها الكاتب اعطته فرصة كبيرة في طريقة التصوير وباساليب تتغير حسب المواقف والمشاهدات التي رصدها الكاتب في الأماكن المختلفة مما وفرت حالة من الاتساع الخيالي مع بعض القرائن التي استخدمها كسرت كل القيود التي احاطت بالنص فاعطته هذه الأريحية في نقل المتخيل الفكري وتحويله إلى نص مؤثر ، وكأنه كان قد خزنها في ذاكرته وعمل على اظهارها بشكل مقنن على حسب ما تتطلبه الحالة التي يريد أن يرسم ملامحها ومن ثم يعطيها صورتها النهائية.
ولا تكتمل صحة نقل الصورة وترجمتها إلى كلمات إلا من خلال ترتيب العلاقات التي تسوًغ صياغة الجملة وقبولها عند المتلقي، وقد نجح الكاتب في هذا الجانب .
وفي هذا دلالة واضحة على قدرة الكاتب وخبرته في هذا المجال وحسن مراعاته لطريقة التصوير وارتباطها بالخيال من جانب وفي ترجمتها إلى عبارة مكتوبة يفهمها المتلقي من جانب آخر ، وهذا يعتمد على حسن تصرف الكاتب وعلى قدراته الذهنية والحسية في دقة التعبير.




No comments:

Post a Comment

هل الأسلوب هو البديل

  هل الأسلوب هو البديل ************************************************ لا يمكن للأسلوب ومفاهيمه أن يكون بديلاً للبلاغة . كل علم من علوم الل...